معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء ..﴾


المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾(1) .. هل معنى ذلك أن يصح الإكراه لهن إذا لم يردن تحصنا؟


الجواب:

المراد من الفتيات في الآية المباركة هي الإماء كما أنَّ المراد من الفتيان في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ..﴾(2) هم العبيد، وكذلك هو معنى الفتى في قوله تعالى: ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ﴾(3) فإنَّ معنى الفتى هو العبد والمقصود به في الآية هو يوسف (ع) حيث أنَّه كان مستعبَداً للعزيز وزوجته، فليس المراد من قوله: "فتياتكم" هو بناتكم كما قد يتوهم بل المراد إماؤكم المستعبدات.

 

وأما المراد من البغاء فهو الزنا والفجور، والمراد من التحصُّن هو التعفف عن الزنا.

 

والآية المباركة كانت بصدد الردع والمعالجة لظاهرةٍ متناهية في القبح كانت سائدة بين عرب الجاهلية، وهي أنَّ بعض المتمولين منهم كانوا يشترون الإماء ويتخذون منهنَّ بغايا لغرض التكسُّب، وكانوا يقسرون كلَّ من أرادت منهنَّ التمنُّع والتعَّفف عن هذا الفعل الشنيع.

 

وكانت وسائل القسر والإكراه متعددة، فمنها التهديد بالإيذاء أو القتل يستغلّون في ذلك ضعفهنَّ عن حماية وجودهن فضلاً عن حماية حقوقهن، ومن وسائل القسر هو أنَّهم يفرضون عليهنَّ ضرائب ثقيلة فيلجئن إلى البغاء من أجل تأمين هذه الضرائب المفروضة عليهنَّ ظلماً وعدواناً.

 

ومن ذلك يتبين المراد من الآية المباركة وإنها سِيقت لغرض الردع عن هذه الظاهرة المعبِّرة عن خسَّة مَن يُمارسها، وقد سبق هذا الردع الأمر بالإحسان إلى الإماء والقبول بمكاتبتهنَّ أي التعاقد معهنَّ على تخليص أنفسهن من العبودية في مقابل مالٍ يقبلن بقدره ويدفعنه على مراحل قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ ..﴾(4).

 

وأما الإشكال بأنَّه كيف قيَّدت الآية النهي عن الإكراه على البغاء بإرادة التحصُّن.

 

فجوابه: إنَّ ذلك لا يعني أنَّ الإماء إذا لم يُردن التحصُّن والتعفُّف فإنَّه لا مانع من إكراههن وقسرهن على البغاء فإنَّ ذلك غير مرادٍ قطعاً من الآية.

 

فإنَّ قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ إنما هو لبيان الفرض الذي يتحقق معه الإكراه، فإن الأمة وغيرها إذا لم تكن مريدة للتحصن والتعفف فإن البغاء لا يصدر منها إكراهاً وقسراً بل يصدر منها بمحض إرادتها.

 

فالإكراه إنما يتحقق في فرض إرادة الأمة للتحصُّن، وأما إذا لم تكن مريدة للتحصُّن، فالبغاء لا يصدر منها إلا عن إرادة واختيار. وحينئذٍ لا معنى للنهي عن الإكراه لأنَّه لا معنى للإكراه مع فرض إرادة الأمة للبغاء.

 

فهذه التي هي مريدة للبغاء بمحض اختيارها لا يُنهى عن إكراهها وإنما تُنهى عن البغاء والزنا، وقد تصدَّت آيات أخرى للنهي عن الزنا كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾(5).

 

فالآية المباركة إنَّما هي بصدد النهي عن الإكراه على الزنا وليست بصدد النهي عن الزنا، فإن ذلك قد تكفلته آيات أخرى.

 

وبتعبير آخر: الآية المباركة بصدد المعالجة لما عليه عرب الجاهلية من إكراه إمائهن على البغاء لغرض التكسب بفجورهن وليست بصدد النهي عن الزنا فإنَّ ذلك أمر قد تمَّ الفراغ عنه.

 

وأما قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ فهو لأن الإكراه لا يتحقق لهنَّ إلا في فرض إرادتهن للتحصُّن وأما إذا كنَّ مردن للفجور بمحض اختيارهن فإنَّ أمرهن من قبل أسيادهن بالفجور للتكسب لا يعدُّ من الإكراه والقسر وإنما هو من الزنا الإختياري المنهي عنه في آيات أخرى.

 

فقوله: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ ليس شرطاً في الإكراه وإنما هو بيان لما يتحقق به الإكراه، لذلك لا يصح القول بأنه يجوز إكراه الإماء إذا لم يردن التعفف والتحصن لأنه مع عدم إرادتهن للتعفف لا يكون ثمة إكراه، لأن عدم إرادتهن للتعفُّف يساوق إرادتهن ورغبتهن للبغاء وحينئذٍ كيف يصح القول: لا تكره المرأة المريدة للبغاء على البغاء؟!

 

فهذا القول أشبه شيء بما لو قيل: لا تكره الراغب في الخمر على شرب الخمر، فإنَّ مثل هذا القول لا يتفوه به العقلاء إذ أنه لا معنى لإكراه الراغب، فإنَّ الرغبة والإكراه متضادان فلا يمكن أن يكون العاقل راغباً في الشيء ومُكرَهاً عليه في ذات الوقت.

 

لذلك فيتمحض صدق الإكراه في فرض إرادة الإماء للتحصن والتعفف، وأما في فرض إرادتهن للبغاء فإنه لا معنى لإكراههن، ولهذا فالآية ليست بصدد التقييد بهذا الفرض لأن الفرض المقابل لهذا الفرض لا يكون معه إكراه أصلاً.

 

ومن الواضح أن التقييد بشيء إنما يصح في فرض انحفاظ المقيَّد في حالتي وجود القيد وانتفائه، وأما في فرض انعدام المقيَّد عند انتفاء القيد فإنَّ هذا القيد ليس قيداً وإنما هو محقِّق لموضوع المقيَّد وهذا هو ما يعبِّر عنه الأصوليون بالقيود المحقِّقة للموضوع التي يكون انتفاؤها مساوقاً لانتفاء الموضوع.

 

ففرق بين ما إذا قيل: "إذا كان زيد عالماً فأكرمه" وبين ما إذا قيل: "إذا رزقت ولد فاختنه"، فإنَّ العالم -في المثال الاول- يكون قيداً لوجوب إكرام زيد، لأن الإتصاف بالعالمية يمكن أن تثبت لزيد ويمكن أن تنتفي عنه وفي كلا الفرضين يكون المقيَّد وهو زيد منحفظاً وموجوداً.

 

وأما في المثال الثاني فإنه إذا لم يرزق الإنسان ولداً فلا معنى للأمر بختانه لأنه لا ولد حتى يُختن فقوله: "إذا رزقت ولداً" ليس قيداً لأن القيد والشرط إنما يصدق في فرض انحفاظ المقيَّد عند انتفاء القيد، وهنا لو لم يرزق الإنسان بولد فإنه لا ولد، فلا معنى للأمر أو النهي عن ختانه.

 

والمقام من هذا القبيل فإنَّ قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ ليس قيداً وشرطاً، إذ أنه لو انتفت إرادة التحصُّن فإنَّ الأكراه ينتفي، فلا إكراه مع عدم إرادة التحصن أي مع إرادة البغاء.

 

وأما فائدة القول: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ رغم أنه ليس قيداً فهو التنبيه والتوضح بأن مجرَّد إرادتهن للتحصن والتعفف يعني الإكراه لهن على البغاء.

 

فقد يتوهم المتلقي للخطاب إنَّ الإكراه لا يكون إلا في فرض التهديد بالقتل والإيذاء الشديد إلا أنَّ هذا التوهُّم يننفي حين ملاحظة قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ فحينئذٍ يفهم المتلقيِّ للخطاب أنَّ الأمة إذا كانت مريدة للتعفُّف فإن دفعها بأي نحوٍ إلى البغاء يعدُّ إكراهاً لها على البغاء، وهذا هو معنى قولنا إنَّ قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ أُريد منه بيان معنى الإكراه المنهي عنه في الآية المباركة.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- سورة النور / 33.

2- سورة يوسف / 62.

3- سورة يوسف / 30.

4- سورة النور / 33.

5- سورة الاسراء / 32.