زجر الاب لو ارتكب المنكر هل ينافي وجوب البر


المسألة:

لو قلنا بوجود تعارض بين إطلاقات أدلة وجوب المعاشرة بالمعروف وبين إطلاقات أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تشمل نهي وأمر الأبوين حتى بالمراتب الشديدة، فهل يمكن أن نقول بما أن وجوب المعاشرة بالمعروف تعيني بينما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفائي، ففي فرض عدم تعين الأمر والنهي بشدة على الولد لا يجوز له ذلك لكون إطلاق الأول شمولي والثاني بدلي فيقدم الإطلاق الأول؟


الجواب:

هذا البيان لايتم، وذلك لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتعيَّن فلا يكون كفائياً وحينئذ يستحكم التنافي بين مدلولي الدليلين في مورد البحث، فمقتضى دليل وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمرتبته الشديدة هو لزوم زجر الأب ونهْره وحتى ضربه أو حبسه، ومقتضى دليل وجوب البر بالأب ومعاشرته بالمعروف هو الرفق به وعدم ضربه أو حبسه، فما هو مقتضى الصناعة في مثل هذا المورد هل هو تقديم دليل الأمر بالمعروف أو دليل وجوب البر بالأبوين، فالمرجع هو مرجِّحات باب التعارض فانْ لم يكن ثمه مرجِّح فالمرجع بعد التساقط اذا لم نقل بالتخيير هو الأصل العملي المقتضي في المقام لعدم وجوب الامر بالمعروف وعدم وجوب البر بالأب في هذا المورد، ونتيجة ذلك جواز أحد الفعلين وجواز تركهما. هذا مع فرض عدم وجود عموم فوقاني يكون مرجعاً بعد تساقط الدليلين بالتعارض في هذا المورد.

 

هذا أولاً وثانياً في فرض عدم التعيُّن ووجود مَن به الكفاية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنَّ اقتضاء دليل وجوب الأمر بالمعروف للكفائية لاينفي استحكام التعارض بين دليل وجوب البر بالأبوين ووجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمرتبته الشديدة.

 

فإنَّ الولد هو أحد المخاطَبين بوجوب الامر بالمعروف، فليكن مقتضى الكفائية هو الجواز, ومعنى ذلك هو جواز زجر الاب التارك للمعروف أو المرتكب للمنكر، ومن الواضح انَّ زجره أو حبسه منافٍ لمقتضى دليل وجوب البر بالأبوين فيعود البحث عما هو مقتضى الصناعة هل هو ترجيح دليل البر بالوالدين أودليل وجوب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. والمتحصَّل انَّ كون الامر بالمعروف من الواجبات الكفائية لاينفي استحكام التعارض بين دليل وجوب البر بالوالدين ودليل وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في مورد الأب المرتكب للمنكر.

 

ثم إنَّه لم يتضح المراد من دعوى انَّ الاطلاق في دليل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدلي فإنَّ التكليف بالامر بالمعروف ليس له بدل فهو ليس من قبيل الأمر بالإطعام لمَن أفطر متعمِّداً حيث انَّ التكليف بذلك مماله وهو الصيام شهرين متتابعيين.

 

وكذلك هو ليس من قبيل الامر المتعلِّق بالطبيعة بنحو صِرف الوجود المقتضي للتخيير بين أفراد الطبيعة المعبَّر عنه بالتخيير العقلي كما لو قال المولى "أكرم فقيراً" فإنَّ متعلَّق الامر هو طبيعى الإكرام الصادق على الإطعام والإهداء والتبجيل لمقدمه وما شابه ذلك، فأيُّ فرد من أفراد طبيعة الإكرام اختاره المكلَّف فإنَّه يكون محقِّقاً لصرف الطبيعة الواقعة متعلَّقاً للأمر.

 

وكذلك فإنَّ المكلف في المثال المذكور مخَّير من جهة موضوع الأمر وهو الفقير فله اختيار أيِّ فردٍ من أفراد طبيعة الفقير على سبيل البدل لانَّ موضوع الأمر بالإكرام مجعول على طبيعة الفقير بنحو صرف الوجود.

 

فالتكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من قبيل الاول ولا الثاني، فليس لهذا التكليف بديلاً شرعياً كما في الامر بالإطعام لمن أفطر متعِّمداً، وليس هو مجعولاً على الطبيعة بنحو صرف الوجود فإنَّ موضوع هذا التكليف هو مطلق التارك للواجب والمرتكب للحرام فهو مجعول على موضوعه بنحو مطلق الوجود سواءً كان أجنبياً أو كان أباً أو أماً.

 

فكل هؤلاء مما يجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر في عرضٍ واحد، ومتعلَّق هذا التكليف هو الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات فليس للمكلَّف الأمر بهذا الواجب أو ذاك والنهي عن هذا المحرم أو ذاك بل مطلق الواجبات المتروكة يجب الامر بها ومطلق المحرَّمات المرتكَبة يجب النهي والزجر عن إرتكابها. فاين البدلية في متعلق هذا التكليف؟

 

نعم هذا التكليف كفائي إلا انَّ الكفائية لاتقتضي البدلية من جهة موضوع أو متعلَّق التكليف، وغاية ماتقتضيه الكفائية هو سقوط التكليف عن المكلَّف اذا قام به مكلَّف آخر، فكلُّ مكلَّفٍ في مورد التكليف الكفائي مخاطَب بالتكليف كما هو الشأن في التكليف العيني غايته انَّ التكليف يسقط الخطاب به عن سائر المكلَّفين في التكليف الكفائي اذا امتثله مَن به الكفاية.

 

وعليه فإنَّ الولد مخاطَب بأمر أبيه بالمعروف وزجره عن المنكر قبل انْ يقوم غيره بذلك، وفي هذا المورد يقع التنافي بين دليل هذا التكليف وبين أدلة التكليف بالبر بالوالدين.

 

ويتضح التنافي بشكلٍ أدق لو صيغت المسألة بهذا النحو وهو أن النهي عن المنكر بمرتبه الشديدة واجب بمقتضي دليله على كلِّ مكلف وحرمة الإيذاء للوالدين ثابتة على كلِّ تقدير فيقع التعارض فيما لو ارتكب الأب منكراً يستوجب المرتبة الشديدة من النهي عن المنكر.

 

فمقتضى أدلة حرمة الإيذاء هو النهى عن زجره وحبسه فإنَّ الإيذاء للأبوين بتمام مراتبه محرم بمقتضى دليله ومقتضى أدلة النهي عن المنكر هو وجوب زجر الاب وحبسه، فأيُّ الدليلين يكون مقدماً في هذا الفرض؟

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور