معنى: (ما جعل الله في شيئ مما حرم شفاء)


المسألة:

لو وصلتنا رواية صحيحة السند ولكنها غير متواترة، تحمل مضمونا مخالفا لما عليه التجارب الطبية والعلمية التي يطمئن الأطباء والعلماء إلى نتائجها، فما هو العمل فهل نؤل الرواية؟ أم نرد قول العلماء؟ أو نرد علمها إلى أهله؟

 

وربما يمثل لذلك بما ورد في الكافي: محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ ليس يريد به اللذة إنما يريد به الدواء ؟ فقال: لا ولا جرعة ثم قال: إن الله عز وجل لم يجعل في شئ مما حرم دواء ولا شفاء".

 

فإن الأطباء يقولون أن بعض المحرمات فيها شفاء من بعض الأمراض كما هو معروف.


الجواب:

لو ثبت انَّ الخمر وشبهه من المحرمات يصلح دواءً لبعض الامراض فإن ذلك لا ينافي مفاد الرواية المذكورة وشبهها، فإنّها إنَّما تكون منافية لو كان مفادها هو امتناع واستحالة ان يكون مثل الخمر صالحاً لشفاء أيِّ مرضٍ من الامراض فيكون معنى "ما جعل الله في شيء مما حرَّم دواءً ولا شفاء"(1) هو نفي الجعل التكويني فإنَّ ذلك بحسب الفرض منافٍ لما ثبت علمياً من انَّ بعض المحرمات تصلح لشفاء بعض الامراض.

 

وأما لو كان مفاد الرواية هو انَّ الله تعالى لم يُرخِّص في الاستشفاء بشيءٍ من المحرمات فحينئذٍ لاتكون مثل هذه الرواية نافية لصلاحية المحرَّم للشفاء تكويناً وإنما هي نافية لإباحة الاستشفاء بالمحرَّم شرعاً وإنْ كان هذا المحرَّم مقتضياً للشفاء تكويناً.

 

فالجعل المنفي في الرواية المذكورة -بناء على ذلك- هو الجعل التشريعي وليس هو الجعل التكوينى أي إنَّ معنى قوله (ع): "ما جعل الله في شيء مما حرَّم دواءً ولا شفاء" هو انَّ الله تعالى لم يجعل الرخصه والاباحة في الاستشفاء بشيءٍ مما حرَّم.

 

والمؤيد لذلك هو انَّ رواياتٍ عديدة شدَّدت النهي على ترك التداوي بمثل الخمر ولم يُشر شيءٌ منها إلى انَّ من علل ذلك أو من حكمه انَّ الخمر غير مقتضٍ للشفاء تكويناً رغم انَّ ذكر ذلك أَدعى لترك التداوي به عند المخاطَب ، وهو في ذات الوقت ينفي عن المخاطَب الاستيحاش من النهي عن شرب الخمر للاستشفاء لانه يرى انَّ ذلك ينبغي ان يكون مسِّوغاً لاباحة شربه، فإذا علم انَّ شربه لا يقتضي الشفاء واقعاً فإنَّ الاستيحاش من النهي عن شربه للاستشفاء يزول بذلك إذ انَّ إباحته لو قدِّر لها انْ تثبت فهي إنَّما ستثبت في ظرف صلاحيته للتداوي والشفاء فإذا لم يكن صالحاً لذلك تكويناً فلا مسوَّغ حينئذٍ لإباحته.

 

وبذلك يتضح انَّ ذكر التعليل بأنَّ الخمر غير مقتض للشفاء تكويناً يكون مناسباً جداً لو كانت هذه القضية ثابتة واقعاً وكان أهل البيت (ع) قد عللوا بها النهي في موارد آخرى.

 

ولهذا يكون عدم ذكر هذا التعليل في أكثر الروايات مؤيداً واضحاً على عدم إرادتهم لهذا التعليل في الروايات المستظَهر منها بدواً إرادة هذا التعليل.

 

ولمزيدٍ من التوضيح ننقل بعض الروايات التى أفادت حرمة التداوي بمثل الخمر دون ان تُشير إلى ان مثل الخمر لا يصلح تكويناً للشفاء.

 

الرواية الاولى: عن أبي بصير قال: دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله (ع) وأنا عنده فقالت: "جعلتُ فداك إنَّه يعتريني قراقر في بطني وقد وصف لي أطباءُ العراق النبيذ بالسويق، فقال (ع): ما يمنعك من شربه؟ فقالت: قد قلدتُك ديني، فقال: فلا تذوقي منه قطرة، لا والله لا آذن لك في قطرةٍ منه، فإنَّما تندمين إذا بلغت نفسك ههنا وأومىءَ بيده إلى حنجرته يقولها ثلاثاً، أفهمت؟ فقالت: نعم ثم قال أبو عبد الله (ع): ما يبلُّ الميل يُنجَّس حَّباً من ماء يقولها ثلاثاً"(2).

 

الرواية الثانية: عن أسباط عن أبيه قال كنت عند أبي عبد الله (ع) فقال له رجل: إنَّ بي أرياح البواسير وليس يوافقني إلا شرب النبيذ، قال: فقال: مالك ولما حرَّم الله ورسوله يقول ذلك ثلاثا، عليك بهذا المريس الذي تمرسه بالليل وتشربه بالغداة وتمرسه بالغداة وتشربه بالعشي، فقال: هذا ينفخ البطن، فقال: فأدلك على ما هو أنفع من هذا، عليك بالدعاء فإنه شفاء من كل داء، قال: فقلنا له: فقليله وكثيره حرام؟ قال: قليله وكثيره حرام"(3).

 

الرواية الثالثة: رواه العياشي في تفسيره عن شيخ من أصحابنا، عن أبي عبد الله (ع) قال: "كنا عنده فسأله شيخ، فقال: إنَّ بي وجعاً وأنا أشربُ له النبيذ ووصفه له الشيخ، فقال له: ما يمنعك من الماء الذي جعل الله منه كلَّ شئٍ حي قال، لا يوافقني، قال: فما يمنعك من العسل قال الله: "فيه شفاء" للناس؟ قال: لا أجده، قال: فما يمنعك من اللبن الذي نبت منه لحمك واشتَّد عظمك؟ قال: لا يوافقني، قال أبو عبد الله (ع): تريد أن آمرك بشرب الخمر لا والله لا آمرك"(4).

 

فهذه الروايات ومثلها غيرُها لم يشتمل شيٌء منها على الاشارة إلى انَّ المحرَّم لا يقتضي الشفاء تكويناً رغم اتحادها موضوعاً مع الرواية التي وقع السؤال عنها وهو اتخاد الخمر للتداوي والاستشفاء، فالامام (ع) لم يذكر في هذه الروايات وكذلك غيرها انَّ الخمر لا يصلح تكويناً للشفاء رغم انَّ المناسب هو ذكر ذلك أو الاشارة إليه لما بينَّاه.

 

على انَّ الرواية تسترعي الاشارة إلى ذلك لو كان ثابتاً واقعاً ، وذلك لانَّ السائل قد أفاد انَّ أطباء العراق قد وصفوا الخمر دواءً لدائه فالمناسب هو نفي الصحة عن توصيفهم خصوصاً وان الواضح من حال السائل انه يُقدِّم قول الامام (ع) على تشخيص الاطباء إلا انَّ الامام عدل عن تخطئتهم في التشخيص الموضوعي وتمحَّض جوابه في بيان الحكم الشرعي، وذلك ما قد يُوهم إقرار الامام (ع) بصحة تشخيصهم الموضوعي وانَّ النبيذ يصلح دواءً تكويناً إلا انَّ الشأن في جواز اتخاذه دواءً وعدم جوازه أو انَّ سكوته عن تشخيصهم وعدوله إلى بيان الحكم الشرعي يُوهم باقراره بامكانية صحة قولهم.

 

وعلى كلا التقدير تنتفي دعوى بناء الامام (ع) على انَّ مثل الخمر لايصلح للاستشفاء تكونياً بنحو مطلق.

 

وكذلك الحال في الرواية الثانية فإنَّ السائل أفاد بأنه ينتفع بشرب النبيذ وانَّه لاشيء غيره ينتفع به لعلاج مرضه، فهو يُخبر عن وجدان، فالامام (ع) لم ينفِ صحه مايجده السائل وانه متوهم فيما يجد بل عدل عن ذلك وتصدى لبيان حكم الاستشفاء بالنبيذ، وأفاد انَّه مما حرمه الله تعالى ورسوله (ص) فلو كان السائل كاذباً لكان الاولى بالامام (ع) ردعه عن دعواه انَّ الله قد جعل شفاءه في الحرام، ولوكان مخطئاً فيما يجد لكان المناسب تنبيهه انَّ ما يجده من الموافقة ما هو إلا وهم وانَّ الله لم يجعل الشفاء في الخمر، فإنَّ عدم تنبيهه على انَّ مايجده كان وهماً يُشعر بإقرار الامام (ع) انَّ السائل لم يكن متوهَّماً وإلا فالمناسب هو بيان ذلك للسائل رفعاً لاستيحاشه من النهى عن شرب دواءٍ ينفعه وجداناً وليكون ذلك أدعى لترك الاستشفاء به والسعي من أجل البحث عن دواءٍ آخر.

 

فعدول الامام (ع) عن ذلك وتمحّض جوابه في بيان الحكم الشرعي ثم تأكيده انَّ قليل الخمر مثل كثيره حرام مشعر بأن ما يجده من الانتفاع بالنبيد ليس منافياً للواقع بل هو منافٍ للاباحة الشرعية وحسب.

 

وهكذا الحال في الرواية الثالثة فإنَّ الامام (ع) عدل عن نفي صحة ما يدعيه السائل من موافقة النبيذ لوجعه إلى نعت أشربةٍ آخرى كالعسل واللبن فلو كان الواقع انَّ النبيد لايُوافقه لكان المناسب هو تفنيد دعوى السائل إلا انَّ الامام (ع) لم يفعل ذلك بل وصف له أشربةً أخرى، فحين اعتذر عنها أفاد الامام (ع) انه لا يأذن له في الاستشفاء بالخمر.

 

فمساق الرواية مشعر إذا لم يكن ظاهراً في إقرار الامام (ع) امكانية انْ يكون النبيذ دواءً لمرض السائل إلا ان شفاءه من هذا المرض لا ينحصر بهذا الدواء.

 

والمتحصل ان مثل هذه الروايات تصلح مؤيداً على ان ما يُستظهر بدواً من رواية ابن اذينة ليس هو المراد بل المراد هو نفي الجعل الشرعي للترخيص في الاستشفاء بالمحرَّم.

 

ثم انَّ هنا رواياتٍ ظاهرها الإقرار بامكانية انْ يكون المحرمَّ مقتضياً للشفاء تكويناً، وهو ما يؤيد عدم إرادة الامام (ع) من معتبرة ابن اُذينة امتناع انَ يكون المحرَّم دواءً تكويناً، فإنَّ كلام أهل البيت (ع) يُفسَّر بعضه بعضاً.

 

فمن هذه الروايات مارواه الشيخ بسنده عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (ع) في رجلٍ اشتكى عينيه فنعت له بكحل يُعجن بالخمر فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة فإنْ كان مضطراً فليكتحل به(5).

 

فمثل هذه الرواية ظاهرة جداً في إقرار الامام (ع) بامكانية اقتضاء المحرَّم للشفاء، ولوقيل ان أقصى ماتدل عليه هذه الرواية هو امكانية الإستشفاء بالمحرَّم إذا كان بغير الشرب، فلا مانع من حمل معتبرة ابن اذينه على ان المراد منها هو امتناع الشفاء بالمحرم تكونياً إذا كان بنحو الشرب وعليه فرواية هارون لاتنفي ماهو المُستظَهر من معتبرة ابن اذنية في الامتناع التكوينى للشفاء بالمحرَّم.

 

لو قيل ذلك فإنَّ جوابه انَّ هذا الاشكال لايرد على مثل رواية سماعة قال: قال لى أبو عبدالله (ع) عن رجل كان به داء فأُمر بشرب البول فقال: لا يشربه، قلتُ إنه مضطرٌ إلى شربه قال: إن كان مضطراً إلى شربه ولم يجد دواءً لدائه فليشرب بوله، وأما بول غيره فلا"(6).

 

فإنَّ هذه الرواية ظاهرة جداً في تسليم الامام (ع) بامكانية اقتضاء المحرَّم وهو البول للشفاء تكويناً.

 

وكذلك يصح الاستشهاد بالروايات التى أباحت شربَ بولِ البقر للاستشفاء بناءً على حرمته لخباثته. والمتحصل مما ذكرناه انَّ امتناع اقتضاء المحرَّم للشفاء تكويناً ليس هو المعنى المتعيَّن من مفاد معتبرة ابن أذنية فإنَّ هذا المعنى وان كان هو المُستظَهر بدْواً إلا ان هذا الظهور لا يستقرُّ بعد ملاحظة ماذكرناه من قرائن ومؤِّيدات للمعنى الآخر، فإما ان تكون مثل معتبرة ابن اذنية ظاهرة في المعنى الثاني الذي ذكرناه وهو إرادة نفي الجعل التشريعي أو تكون مجملة.

 

ومع الاصرار على استظهار المعنى الاول يتعيَّن حملها على ان المراد من انَّ الله لم يجعل فيما حرَّم شفاء هو انَّه تعالى لم يجعل فيما حرَّم شفاءً مستقراً ومن تمام الجهات، فالمستشفي بمثل الخمر وان كان قد يتعافي من مرضه الذي يُعاني منه إلا انه يبتلي بأمراض أخرى أو بمضاعفات تظهر عليه فيما بعد.

 

فمعنى الرواية بناءً على ذلك هو انَّ الله تعالى لم يجعل شفاءً حقيقياً مستقراً مجرداً من التبعات في شيءٍ مما حرَّم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- كفاية الأحكام -المحقق السبزواري- ج 2 ص 628

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 344.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 345.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 348.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 350.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 25 ص 346.