التبرك بآثار الأنبياء والصالحين

جرت سنة اللّه الحكيمة على إجراء فيضه إلى الناس عن طريق الأسباب العادية، كما هو المشاهد لكلّ واحد منّا إلاّ انّه سبحانه ربما يُجري فيضه عن طريق علل غير مألوفة أو خارقة للعادة لغايات مختلفة، فتارة تكون الغاية هي الاعجاز واثبات النبوة وأُخرى تكون هي اجلال الشخص وتكريمه.

أمّا الأول، فكل المعاجز التي يأتي بها الأنبياء بإذن اللّه سبحانه في مقام الدعوة والتحدّي، والقرآن يعجّ بهذا النوع من المعجزات.

وأمّا الثاني: فنذكر منه نموذجين:

قال سبحانه: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرَيَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِساب﴾.(1)

وقال سبحانه: ﴿وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾.(2)

وما ورد في هذه الآيات من ظهور فيضه سبحانه على خاصة أوليائه إنّما هو من باب الكرامة لا الإعجاز، فلم تكن مريم (عليها السلام) مدعية للنبوة حتى تتحدى بهذه الكرامة، بل كان تفضّلاً من اللّه سبحانه عليها في فترات متلاحقة.

ويقرب مما ذكرنا قوله سبحانه: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصي هذا فَألْقُوهُ عَلى وَجْهِ أبي يَأتِ بَصيرًا... *فَلَمّا أنْ جاءَ البَشيرُ ألْقيهُ عَلى وَجْههِ فَارتَدَّ بَصيرًا﴾.(3)

وممّا لا شكّ فيه انّ يوسف لم يكن مدعيًا للنبوة أمام إخوته حتى يتحدّى بهذه الكرامة، وإنّما كان تفضّلاً من اللّه عن هذا الطريق لإعادة بصر أبيه يعقوب.

هذه الآيات توقفنا على أنّه سبحانه: يُجري فيضه على عباده عن طريقين فتارة عن طريق الأسباب العادية، وأُخرى عن طريق أسباب غير عادية.

وأمّا تأثير تلكم الأسباب غير العادية كالأسباب العادية فكلّها بإذن اللّه سبحانه.

وعلى ضوء ذلك كان المسلمون يتبرّكون بآثار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يتبركون بشعره وبفضل وضوئه وثيابه وآنيته ومسِّ جسده الشريف، إلى غير ذلك من آثاره الشريفة التي رواها الأخيار عن الأخيار.

فصار التبرك بها سنة الصحابة واقتدى آثارهم من نهج نهجهم من التابعين والصالحين.

قال ابن هشام في الفصل الذي عقده لصلح الحديبية: إنّ قريشًا بعثت عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس بين يديه وبعد ما وقف على نية الرسول من خروجه إلى مكة رجع إلى قومه وأخبرهم بما دار بينه و بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ قال: إنّ محمّدًا لا يتوضأ إلاّ وابتدر أصحابه بماء وضوئه، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه، ثمّ قال: يا معشر قريش لقد رأيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وانّي واللّه ما رأيت ملكًا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قومًا لا يسلّمونه لشيء أبدًا فَرَوْا رأيكم.(4)

وقد ألف غير واحد من علماء الإسلام ما قام به الصحابة من التبرك بآثار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نذكر عناوينها:

التبرك بتحنيك الأطفال.

التبرك بالمسح والمس.

التبرك بفضل وضوئه وغسله.

التبرك بسوَر شرابه وطعامه.

إنّ تبرك الصحابة لم يقتصر على ذلك بل كانوا يتبركون بماء أدخل فيه يده المباركة، وبماء من الآنية التي شرب منها، وبشعره، وعرقه، وظفره، والقدح الذي شرب منه، وموضع فمه، ومنبره، والدنانير التي أعطاها، وقبره وجرت عادتهم على التبرك به، ووضع الخد عليه والبكاء عنده.

وقد ألف المحقّق العلاّمة محمد طاهر بن عبد القادر كتابًا باسم "تبرك الصحابة"، وهو من علماء مكة المكرمة قال فيه: أجمعت صحابة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على التبرك بآثار رسول اللّه والاهتمام في جمعها وهم الهداة المهديون والقدوة الصالحون فيتبركون بشعره وبفضل وضوئه وعرقه وثيابه وآنيته وبمسِّ جسده الشريف، وبغير ذلك ممّا عرف من آثاره الشريفة التي صحت به الأخبار عن الأخيار.

وقد وقع التبرك ببعض آثاره في عهده وأقرّه ولم ينكر عليه،فدلَّ ذلك دلالة قاطعة على مشروعيته، ولو لم يكن مشروعًا لنهى عنه وحذّر منه.

وكما تدل الأخبار الصحيحة وإجماع الصحابة على مشروعيته تدل على قوة إيمان المتبركين وشدّة محبتهم وموالاتهم ومتابعتهم للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) كقول الشاعر:

أمرّ على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا(5)


1- آل عمران|37.

2- مريم|25.

3- يوسف|93ـ96.

4- السيرة النبوية: ابن هشام: 2|314، صلح الحديبية.

5- تبرك الصحابة:50.