ثانيًا: المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد
بعد وضع اللمسات الأولية على تشخيص المجاز العقلي في القرآن، وعند العرب في الاستعمال والاستنباط، لا بد لنا من إجمال القول في أمرين مساعدين على اكتشاف المجاز العقلي في القرآن من خلال استعراض عبد القاهر لذلك في حالتي الإثبات دون المثبت، والإسناد في الجملة دون الألفاظ.
1. ذهب عبد القاهر (ت: 471 هـ) أن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة(1). ومسألة الإثبات والمثبت أشرنا إليها في كتابنا: " أصول البيان العربي "، وهنا نلخص ما أوضحناه هناك وما استجد لدينا في فهمها من خلال النظر في التنظير:
أ- حينما نمعن النظر في قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم﴾ (البقرة/19). نرى أن الجعل هنا هو الوضع، والوضع حاصل على حقيقته، ولا مجاز فيه، باعتباره جاريا على الأصل، ولو تحقق فيه فرضا لكان مجازا لغويا ولا شاهد لنا معه؛ وإنما المجاز في الإثبات دون المثبت، ولما كان الجعل مثبتا دون ريب، وضعنا أيدينا على الإثبات، وهو في الآية الأصابع، لأن المراد بهذا الوضع من الأصابع: ذلك القدر المحدود من الأصابع الذي تستوعبه الآذان في الوضع، وهو عادة: الأنامل فحسب، والأنامل بعض الأصابع، وهنا تحقق المجاز في الإثبات، وهو الأصابع لإرادة الأنامل منها، لأن المثبت، وهو أصل الوضع حاصل على حقيقته اللغوية، وقد اكتشف في الإثبات عن طريق الإسناد وبحكم الدلالة العقلية، على أن هذا الانطباق في المجاز العقلي قد يصدق أيضا في المجاز اللغوي في هذا الملحظ بالذات، ويكون ذلك من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء(2).
ب - وفي قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ (الدخان/16). نلحظ أن البطش واقع لا محالة، ومن قبل الله سبحانه وتعالى، فهو جار على حقيقيته، وهذا هو المثبت، فالبطش إنما يقع حقيقة في اليد ذات الطول والقوة والتحطيم، فإذا أريد به المجازية نقلناه الى المعنى الذي يصدر عادة من الجوارح، وهو هنا - والله العالم - ليس كذلك إذ لا يصدر عن يد، ولا يخرج من جارحة، فالله منزه عن الجوارح، بدلالة عقلية وهنا يأتي الإثبات محل الإشكال، فهو بطش لا كالبطش المعتاد، وانتقام لا كالانتقام المتعارف، وهو واقع دون شك، ولكن بغير الأدوات المعتادة، وإذا كان واقعا فالإثبات فيه حاصل، بل وأكثر من ذلك فقد أسند للبطشة الكبرى ليشمل جميع أصناف البطش، ويستوعب أشد نماذجه وأقساها، فهو كبير من كبير، وليس مما اعتاده البشر، ولا سمع به الناس، ويكفي في الدلالة على غير ذلك نسبته الى ذاته القدسية (إنا منتقمون) لتأكيد صرامة هذا البطش، وقوة هذه الإرادة، دون استعمال الوسائل المعتادة في البطش البشري، بل فوق تصور الإنسان، بل وليس في مقدوره الإحاطة بكنهه المتطاول، وقد جاء في إثباته من الوعيد الصارم، والترهيب القاطع ما هو جلي عند أهل اللسان. إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته وتوجيهاته في الحمل على الإرادة المجازية في النظر العقلي.
ج- وقد تنقلب الحال فيقع المجاز في المثبت، وتكون الحقيقة في الإثبات، فمثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام/122). ويعقب عبد القاهر على ذلك، ويعده من باب المجاز اللغوي بناء على قاعدته السابقة: إذا وقع في الإثبات فالمجاز عقلي، وإذا وقع في المثبت فالمجاز لغوي، يقول: وذلك أن المعنى والله أعلم، على أن جعل العلم والهدى والحكمة حياة للقلوب على حد قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى/52).
فالمجاز في المثبت وهو الحياة، فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف الى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده. ومن الواضح في ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ (فاطر/9) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فصلت/39). جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع حياة لها؛ فكان ذلك مجازا في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على النسبية، فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى، ولا حقيقة أحق من ذلك(3).
ويتابع عبد القاهر تقرير حقيقة الفصل بين المجاز اللغوي والعقلي، بما يشبه الحكم القاطع الذي لا تردد معه، فيقول: ومما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته الى دلالة اللغة، وجعله مشروطا فيها محال، لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات، ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه(4).
2. ولما كان المجاز العقلي إنما يعرف باعتبار طرفيه، وهما المسند والمسند إليه، لأنه إنما يقع في الجملة، والجملة تعرف بالتركيب، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها، لأنه ليس من باب اللفظ المفرد فينظر له بالاستعارة، ولا يرى في الكلمة المنقولة عن الأصل فينظر له في المجاز المرسل، وإنما هومكتشف من الإسناد وما يؤول اليه المعنى في ضوئه، والإسناد يعرف بطرفيه، وهذان الطرفان في المجاز العقلي في القرآن لهما صيغ مختلفة تحدد بما يأتي:
أ- الطرفان حقيقيان: ولا علاقة لهما بالمجاز منفردين إلا بضم بعضهما الى البعض الآخر كقوله تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ (الزلزلة/2). فإن الإخراج حقيقي، والأرض حقيقة، ولا مجاز بهما وحدهما، ولكن المجاز العقلي مستنبط من أقترانهما، وبإسناد الإخراج الى الأرض، لأن المخرج حقيقة هو الله تعالى، وليس للأرض قابلية الإخراج، فلا إرادة لها، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلما أسند لها الإخراج علمنا ضرورة بمجازية الأستعمال إسنادا بحكم العقل.
ب - الطرفان مجازيان: نحو قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة/16). فالربح هنا مجازي، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في بيع البضائع، والتجارة هنا مجازية، فلا يراد بها المعاملات السوقية، وإنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة وعدم خسران الأعمار، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإنابة وصالح الأعمل. ونظير هذا المجاز العقلي في طرفيه المجازيين كثير في القرآن الكريم، ومن أبرز مظاهره في مثالين بآية واحدة قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة/16). فالشراء هنا مجازي، ولا يراد به إجراء العقد في إنجاز صفقات البيع، والضلالة وإن كانت حقيقة، إلا أنها ليس مما يشترى بالهدى، ولا مما يباع به، وكلا الإسنادين مجازي، وبقية الآية تقدم فيها الكلام. وكذلك قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (البقرة/90).
ج- الطرفان مختلفان كقوله تعالى: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم/25). فإن نسبة إيتاء الأكل الى الشجرة مجازية، لأن المؤتي هو الله تعالى، ولكن الأكل هنا حقيقة، وهو ثمرة الشجرة فكان أحد الطرفين مجازيا والثاني حقيقيا. وعليه يحمل قوله تعالى في نموذجين مختلفين بآية واحدة، وهو قوله تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة/81).
(فكسب) و (أحاطت) كلاهما مجازان، و (سيئة) و (خطيئة) كلاهما حقيقيان؛ ونسبة الكسب الى الإنسان في السيئات مجازية، لأن السيئات ليس مما يكتسب به الإنسان حقيقة، ولا هي قابلة لهذا الإعتبار، إلا أنها استعملت ونسبت عقليا بحكم الإسناد، وكأن صاحبها قد عمل فكان كسبه خسرانا لأن نتيجة هذا الكسب هو السيئات، وكذلك الحال بالنسبة لإسناد الإحاطة بالخطيئة، فالإحاطة تتطلب مكانا ومحلا يمكن الأستدارة عليه كإحاطة الخاتم بالأصبع، أو السوار باليد، أو السجن بالسجين، وهكذا، فكان الأول مجازا والثاني حقيقة، واكتشف المجاز العقلي من اقتران الطرفين.
1المصدر نفسه: 347.
2ظ: أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/410، ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 133.
3أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/410.
4ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 111.