ثانيًا: الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
خصائص المجاز اللغوية في القرآن الكريم، فضلا عن كونها خصائص فنية من وجه، ومؤشرات إعجازية من وجه آخر، فهي بمفهوم غير اعتباطي خصائص أسلوبية متطورة للموروث اللغوي. في المجاز تدرك مركزيا أن اللفظ هو اللفظ، لم يتغير ولم يتبدل حروفا وأصواتا وهيأة، والمعنى لهذا اللفظ ذاته هو المعنى نفسه لم ينقص عنه شيئا، إلا أنه قد ازداد معنى غير المعنى الاولي في دلالته الثانوية الجديدة حينما يراد به الاتساع الى الاستعمال المجازي، وبتطور ذهني، وتصور متبادر إليه، من خلال السياق والإرادة والمغادرة المعنوية لأي لفظ من الألفاظ موقعة الى موقع أرق، وحدث أكبر، فهو في حالته المثبتة في معجمه الأجتماعي لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي، وإنما بقي على ماهو عليه، وقد كانت القرينة الدالة على المعنى الإضافي هي الصارفة عن المعنى الأولي الى سواه في الاستعمال المجازي، سواء أكانت القرينة حالية أم مقالية.
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي، يستغين بها المتلقي عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب، فلا حاجة الى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ويقل عنه تفريغا وتنويعا الى معان مبتكرة، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني.
وقد يقال: وما هذا الالتواء في اصطياد المعاني المستحدثة من ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولماذا لا نغير العبارة ونأتي بها على صيغتها في الأصل للدلالة على المعنى الأصل دون تجوز ومغادرة للدلالة المركزية في هذا اللفظ أو ذاك. وللإجابة عن هذه المقولة لا بد من التنويه بالحقائق المنهجية لمسيرة لغة القرآن العظيم، وهي لغة غير جامدة، تستمد معينها الثر مواصفات أكثر عمقا من سطحية التقول والأفتراض الذي قد يجانب الواقع اللغوي لطبيعة هذه اللغة الكريمة.
كان العرب بفطرتهم النقية أئمة بيان لا شك في هذا، والبيان العربي ذو جذور معرفة في القدم والأصالة يتكون مجموعه من عشرات الآلاف من الألفاظ، ولو كررت الألفاظ نفسها لكان الكلام واحدا، والتفاوت في الجودة والامتياز متلاشيا، وإذا كان الكلام واحدا والتفاوت بين أبعاده مفقودا، لذهبت خصائص البيان الأسلوبية، ولأصبحت حالته متفردة، غير قابلة للتفاضل، واذا تحقق هذا، فقد فقدت البلاغة العربية موقعها، والبيان العربي مميزاته، وحينما يكون المنظور الى الفن القولي متساويا، فما معنى الإعجاز البياني واللغوي والبلاغي في القرآن الكريم، وما هي عائدية قوله تعالى في التحدي للبشرية جمعاء حينما يصرخ: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة/23).
هذا التحدي قائم منصلتا على الإعجاز في القرآن ويعني هذا عجز الكائنات البليغة عن الإتيان ولو بسورة واحدة من جنس هذا البيان، وعدم الإتيان من مثله دليل أصالة القانون البديهي بتفاوت درجات الكلام ومنازله، فكان القرآن أعلاها دون ريب، وكان معجزا بحق. ولو تساوى الكلام لانتهى الإعجاز، ولما كان الإعجاز باقيا كان بالضرورة تفاوت الكلام، وتفاوت الكلام إنما يتحقق بإيراد المعنى في طرق بيانية مختلفة وسبل هذه الطرق واضحة، وركيزتها الأركان الأربعة: المجاز، التشبيه، الاستعارة، الكناية، والتشبيه والاستعارة جزءان من المجاز، والكناية تعني المعاني الثانوية بل معنى المعنى بالضبط، فأركان البلاغة الأربعة جميعا قائمة على المجاز بمعناه العام، وهو المراد.
إذن الدلالة المجازية في الألفاظ، منحة إضافية تمثل مرونة اللغة في الانتقال، وتطورها عند الاستعمال. وهذه الدلالة تقوم بعملية تصوير فني موحية، بإضافة جملة من المعاني الجديدة التي تدعم الزخم اللغوي، وتؤنق في عباراته دون تكلف أو تعسف، أو اقتراض للمفردات من اللغات الأجنبية أو المجاورة، لأنها تعود بذلك غنية عن أية استدانة معجمية من أية لغة عالمية أو إقليمية، هذا التأنق في اختيار المعاني، وهذا الأكتفاء في مفردات الألفاظ، مما يتماشى مع مهمة البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومما يتلاءم مع الخصائص الأسلوبية للمجاز في رفد المخزون الدلالي للألفاظ. لهذا فقد كان سليما ما قرره في هذا المجال في صديقنا المفضال الدكتور عبد الله الصائغ من اعتباره المجاز " عبارة عن مغادرة المفردة لدلالتها المعجمية لتموين دلالة جديدة تسهم في الاتساع والتوكيد والادهاش "(1).
والمجاز بعد هذا: هو حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإراداتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا بعينه هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات المناخ العالمي في السيرورة والانتشار. وهما سمة لغة القرآن.
وهنا يجب أن لا يتطرق في انطباق مفهوم المجاز وحقيقته الاصطلاحية على صنوف التعبيرات اللغوية، حتى وإن أريد بها معناها الأصل، لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان، ودلالته البلاغية، ومما يحمّل الكلام كثيرا مما لا تحتمل طاقته التي تنهض به الى مستوى التعبير الأدبي، فيعود ذلك تكلفا دون ضرورة اليه، وتمحلا، دون اتكاء البيان عليه، والتمحل والتكلف وسواهما من التعسف أحيانا مما ترفضه سجية النصوص الأدبية الراقية لا سيما في القرآن العظيم.
إلا أن ظاهرة هذا التكلف شائعة بين النحاة من جهة، وبين جملة من المفسرين من جهة أخرى، وقد تكون بينهما معا إذا كان المفسر نحويا أو النحوي مفسرا، وهذا مما يؤسف الوقوع فيه، والتمسك به، لأنه قد يتعارض بشكل وآخر مع الخصائص الأسلوبية لمجاز القرآن.
خذ مثلا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون/4) فقد ذهب بعض الأستاذة المعاصرين: أنهم قالوا أن فيه إطلاق الكل على البعض، والمراد تعجبك وجوههم، لأن الأجسام لا ترى كلها، وإنما يرى الوجه فحسب، ولا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية، فالجسم وإن كان لا يرى كله، فمن المستطاع أن يدرك الإنسان بنظرة ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب، وقد لا تريد الآية: تعجبك وجوههم، ولكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة، وما يبدو فيها من مظاهر النماء والقوة، وما عليه وجوههم من جمال ونضرة(2).
هذه الملحوظة وما قاربها، لا تخلو من وجه سديد فيما يبدو، إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية، تصيدا لمعان قد لا تراد، ووجوه لا تستحسن، وعلاقات قد لا تستصوب.
وقد تنبه أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري الى هذا المأخذ فعالجه وأشباهه معالجة فاحصة، ونقده بأدب واتزان تامين، فمس النحاة والمفسرين مسا رقيقا، وعاتبهم عتابا جميلا، وهو في معرض الحديث عن هذه البادرة مضافا الى الاستعمال القرآني الدقيق فقال: " ومن لطائف الاستعمال القرآني كثرة ورود المصدر وصفا إما على سبيل الإسناد خبرا، أو على سبيل النعت أو الحال. قال تعالى في سورة الإسراء: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا﴾ (الإسراء/47).
وقال تعالى في سورة الكهف: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ (الكهف/40) ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ (الكهف/41). والمصدر في الآية الأولى خبر المبتدأ، وهم يزعمون أن اسم المعنى لا يخبر به عن اسم الذات فتأمل. وفي الآية الثانية خبر الفعل الناسخ.
وقال تعالى في مورة الفرقان: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان/63) يقول الزمخشري: " هونا حال أو صفة للمشي،... إلا ان وضع المصدر موضع الصفة مبالغة"(3).
ويعقب المرحوم الدكتور الجواري على هذه الظاهرة بقوله: " وهذا ديدن النحاة إذ أنهم يجنحون إما الى التأويل بتقدير مضاف حتى يكون هو المصدر صالحا لوصف اسم الذات أو الإخبار عنه، وإما الى تفسيره على صورة المبالغة والمجاز. على أن شيوع هذا الاستعمال ووفرته يشعران بأن التأويل والتقدير وصرف المعنى الى المجاز والمبالغة أمور لا ضرورة لها ولا سبب، بل أنها قد تخرج العبارة عن المعنى الذي قصدت إليه "(4).
وقد يقترن الاستعمال الحقيقي بالتعبير المجازي في القرآن، لتأكيد حقيقة كبرى، وتصوير معلم بارز من معالم الأحداث المهمة، يشكل من خلالهما القرآن خصائص أسلوبية مميزة في العرض والأداء والتعبير، حتى تعود تلك الخصائص ظاهرة لغوية معينة يؤكدها أسلوب القرآن المرة بعد الأخرى، وتمثلها في كتاب الله تعالى عند الآية، هذه الخصائص تتجسد بأبرز مظاهرها الفنية في إسناد الحدث الى غير فاعله، وتحاشي ذكر المسبب في إيجاده، وكان القرآن في هذا وذاك يريد التوجه الجدي الحثيث منصبا الى الحدث ذاته، والتفكير منحصرا في أبعاده دون النظر في الفاعل والمبدع له، أنى كانت نوعيته وكيفيته، وهذا ما حدب على تصويره القرآن في مظهرين عظيمين حينما يتحدث عن يوم القيامة مثلا. المظهر الأدل في مجاله، الحقيقي وتعبيره الأستعمالي الأصل:
1- يتحدث النص القرآني عن أحداث الساعة، والتزلزل الكوني في العالم عندها، والتغيير المفاجىء لمعالم الدنيا البصرية والحسية، فتجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول في عشرات الأيات بل مئاتها من القرآن، ولنقف عند سورة التكوير: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ (التكوير/1) ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ﴾ (التكوير/2) ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ (التكوير/3) ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ (التكوير/4) ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ (التكوير/5) ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ (التكوير/6) ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ (التكوير/7) ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ﴾ (التكوير/8) ﴿بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير/9) ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ (التكوير/10) ﴿وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ﴾ (التكوير/11) ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ (التكوير/12) ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ (التكوير/13) ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ (التكوير/14).
وباستقراء هذه الآيات الاربع عشرة، نجد منها اثنتي عشرة أية قد بنيت أفعالها للمجهول، وطوي ذكر الفاعلى فيها وهي: كورت، سيرت، عطلت، حشرت، سجرت، زوجت، سئلت، قتلت، نشرت، كشطت، سعرت، أزلفت.
والقارىء للقرآن يدرك بالفطرة المودعة لديه، أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى بقدرته، أو بأمره، أو بإرادته، أو بتوجيهه لملائكته في تنفيذ ذلك، فصدوره عنه لا شك في ذلك لأنه الجامع بين هذه الأشتات، والمنظم لهذه المتفرقات، أوجدها وسخرها وأنطقها ورتبها، ولكن الخصائص الأسلوبية لهذا النص لا تتعلق بمحدث هذه الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، ولفت الأنظار حوله، والعناية به. لتكون العبرة أشد، واليقظة أعظم.
2- وفي التعبير المجازي قد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهر، وكأن الفعل متلبس بالفاعل، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله، وإن يكن لهذا الفاعل حول أو طول، أو ليس من شأنه ذلك بل المحدث غيره في كل من قوله تعالى:
- ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر/1).
- ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا﴾ (الطور/9) ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾ (الطور/10).
- ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ﴾ (الإنفطار/1) ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾ (الإنفطار/2).
- ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ (الدخان/10).
وواضح أن الساعة لا تقترب تلقائيا، وأن القمر لا ينشق ذاتيا، وأن الساء لا تمور إراديا، وأن الجبال لا تسير اختياريا، وأن السماء أيضا لا تنفطر من نفسها، وأن الكواكب لا تنتثر بحالها، وأن السماء لا تأتي بدخان مبين بإرادتها. وأنما أضيف لها الفعل لتضخيم الحدث، وليتجه التفكير نحوه، فالفاعل الحقيقي هو غير ما أسند إليه الفعل وتأتي، فالساعة تقترب حتما، والقمر ينشق قطعا، والسماء تمور وتنفطر وتأتي بالدخان مسخرة، والجبال تسير لا شك في هذا، والكواكب تنتثر من تلقاء نفسها، ولا يحتاج كل هذا الى كبير أمر، فقد سخرها ربها لتلقي الحدث فهي صاحبته في مناخ قاهر لا عهد لها به، فتتطوع بهذه الأفعال بذاتيتها دون التلويح الى الفاعل الحقيقي.
ومما يؤسف له حقا أن ينشغل أكثر المفسرين عن هذا الملحظ الدقيق، وهذه الظاهرة الأسلوبية النموذجية الى الخوض في تفصيلات الفاعل، وتأويل صدور الفعل عنه.
تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن، ونحن نوافقها في هذا العرض، لأنه من صميم منهجنا البياني: "وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعر، عن الالتفات الى اضطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف، مع وضوحها الى درجة العمد والإصرار: وسرّها البياني دقيق جليل: فاطراد إسناد الحدث الى غير محدثة، بالبناء للمجهول، أو الإسناد المجازي، أو المطاوعة، يدل على التلقائية التي يكون بها الكون كله مهيئا للحدث الخطير، وأن الكائنات مسخرة بقوة لدلك الحدث، فما تحتاج فيها الى امر، ولا الى فاعل... وفيه كذلك، تركيز الانتباه في الحدث ذاته، وحصر الوعي فيه، فلا يتوزع في غيره"(5).
3- وإذا جئنا الى الاتساع اللغوي في مجاز القرآن وجدنا ظاهرة أسلوبية شامخة، وفصل المجاز اللغوي في القرآن يؤكد هذه الظاهرة بجميع أبعادها في التجوز والاتساع والمرونة، وفيه غنية عن الإفاضة في هذا المدرك لأنه حافل بدلائل سلامة اللفظ اللغوي، وسيرورته في المعاني الجديدة التي لا تعامل الأصل باعتباره منسوخا أو مستغنيا عنه، بل هو هو وهو مضاف إليه هذا الاتساع.
تأمل في هوله تعالى: ﴿واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ (البقرة/19) فإنك ستجد بيسر وسهولة كلمة " محيط " غير متخلية عن المعنى الأصل، ولكنها على الصعيد المجازي، تحمل دلالة بارزة جديدة، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية، التي اعتاد السامع إدراكها مركزيا من اللفظ، فليست إحاطته تعالى ههنا إحاطة مكانية، أو طلية، أو جسمية، كإحاطة القلادة بالجيد، أو السوار بالمعصم، أو الخاتم بالبنان، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة عن حدود الإحاطات المتعارفة، وبديهي أن يراد بها إحاطة ذي القوة بمن ليس له قوة، وذي الحول بمن لا حول له، وكإحاطة ذي الشأن بمن لا يدانيه سيطرة وإعدادا، إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان، وإن استوعبت حدود كل مكان، لأن الله تعالى فوق حدود المكان، وإذا كان الأمر كذلك، ويبدوا أنه كذلك، فلا بد من رصد هذه الظاهرة بهذا المدرك الاتساعي في التجوز باللفظ ذاته، وحمله على المعنى الذي أشار اليه الزمخشري (ت: 538 هـ) في قوله: " والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة "(6).
إن الذائقة الفنية في مثل هذه الظواهر تمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن، إذ تجدد القدرة الخارقة في كل نموذج آنف على استيحاء التلازم الذهني بين الأصل الحقيقي والفرع الاستعمالي لمناسبة ما في تنقله من معنى أولي الى معنى ثانوي، وهو يهز المشاعر حينا، ويصون التراث حينا آخر، ويحدث ذلك عادة في وقت واحد وبتفكير جملي متحد. وهذا من خصائص الأسلوب المجازي في القرآن.
1أحمد عبد الستار الجواري، نحو القرآن: 69 - 70.
2بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/85.
3الزمخشري، الكشاف 1: 85.
4أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 223.
5الزمخشري: الكشاف: 4 / 276.
6بنت الشاطىء، التفسير البياني: 1/ 92 وما بعدها.