ثالثًا: تقسيم المجاز القرآني
لم يكن المجاز القرآني بمنأى عن الإطار العام لتقسيم المجاز في البيان العربي، شأنه بذلك شأن الأركان البلاغية الاخرى التي يقوم على أساسها الفن القولي، فقد استقطب القرآن الكريم شتى صنوفها ومختلف تقسيماتها، وحفلت سوره وآياته بأبرز ملامحها وأصدق مظاهرها، حتى عاد تقسيمها خاضعا لأحكام القرآن البلاغية، ولم يكن القرآن خاضعا لتلك التقسيمات في حال من الأحوال، لأنها مستمدة من هديه، وسائرة بركاب مسيرته البيانية المعجزة، وهكذا بالنسبة للمجاز فهو عند البلاغيين نوعان، لأنه في القرآن نوعان: مجاز لغوي ومجاز عقلي، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام، أو هي جزئيات تابعة لكلي المجاز باعتباره عقليا أو لغويا.
هناك بعض الإضافات والمسميات عند القدامى تجاوزت هذا التحديد في نهجه البلاغي، نعرض إليه ونردّه الى أصوله: هناك مجاز الحذف عند سيبويه (ت: 180 هـ) وعند الفراء (ت: 207 هـ) اورداه على سبيل الاتساع في الكلام كأخذ المضاف اليه إعراب المضاف(1).
وقد مثلوا له بقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ (يوسف/82). وقد أضاف عز الدين إبن عبد السلام (ت: 660 هـ) نوعين للمجاز سمّى الأول مجاز التشبيه، وهو التشبيه المحذوف الأداة، وأوضح رأيه هذا بقوله: "العرب إذا شبهوا جرما بجرم، أو معنى بمعنى، أو معنى بجرم، فإن أتوا بأداة التشبيه كان ذلك تشبيها حقيقيا، وإن أسقطوا أداة التشبيه كان ذلك تشبيها مجازيا "(2).
والثاني: مجاز التضمين، وهو أن تضمن اسما معنى إسم لإفادة معنى الإسمين، فتعديه تعديته في بعض المواطن(3). ولقد قسم القزويني المجاز الى مفرد والى مركب، والمفرد الى لغوي وشرعي وعرفي، والمركب وهو التمثيل على سبيل الأستعارة الى مرسل واستعارة(4).
وهنا نعقب على هذه الإضافات ناظرين أصول المجاز في التقسيم.
فأما مجاز الحذف فشأنه كشأن مجاز الزيادة، والأول أشار إليه سيبويه والفراء، وقد أفاد من هذه التسمية القزوني (ت: 739 هـ) فضم إليها مجاز الزيادة، وعقد لذلك فصلا في الإيضاج سمّاه: المجاز بالحذف والزيادة(5).
أما مجاز الحذف، فتسميته بالإيجاز هي اللائقة بالمقام، والإيجاز جار في القرآن مجرى المساوات والأطناب في موضوعهما، ولا داع الى تكلف القول في الآية ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ (يوسف/82). ان حكم القرية في الأصل هو الجر، والنصب فيها مجاز، باعتبار ان المضاف محذوف، وأعطي للمضاف إليه حكم المضاف فأصبح منصوبا وحقه الجر أصلا.
وأما مجاز الزيادة، وقد مثلوا له بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الشورى/11)، على القول بزيادة الكاف، أي ليس مثله شيء، فإعراب " مثله " في الأصل هو النصب، فزيدت الكاف، فصار الحكم جرا، وهذا الجر مجازي على ما يصفون.
والذي أميل إليه أن لا زيادة في الاستعمال القرآني قط، بل هو من باب زيادة المعنى في زيادة المبنى، فإن العبارة لا تعطي دقتها ومرادها لو استعملت مجردة عن الكاف، ووجود الكاف وهو أداة للتشبيه في الآية قد نفى أن يكون لله ما يشبه به، وإذا لم نستطع أن نحصل على ما يشبّه به، فأنى يكون له مثيل أو شبيه فيكون المراد - والله العالم - ليس لما يمثل به مثيل، فمن باب أولى أن لا يكون له مثيل، وبهذا ينتفي فرض الزيادة جملة وتفصيلا.
ويبدو أن مسألة مجاز الحذف والزيادة قد سبقت القزويني بقرون إذ تعقب عبد القاهر (ت: 471 هـ) فبالغ في إنكار هذا القول مجاز الحذف والزيادة، إذ لا يسمى كل حذف مجازا، ولا كل زيادة كذلك، إذ لم يؤد هذا أو ذاك الى تغيير حكم الكلام(6).
وأما ما أضافه عز الدين فليس من المجاز عند البلاغيين، فمجاز التشبيه عنده هو التشبيه المحذوف الأداة، فيسمى تشبيها بليغا، أو هو جار على سبيل الاستعارة لو حذف المشبه به مع أداة التشبيه.
وأما مجاز التضمين، فليس من المجاز في شيء، بل هو إضافة معنى جديد للفظ لا علاقة لها بالنقل عن المعنى الأصلي، بل المراد به: إرادته وإرادة غيره بوقت واحد كقوله تعالى: ﴿ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ (هود/23)، فأنه على ما قالوا تضمن معنى أنابوا مضافا الى الإخبات، لإفادة الإخبات معنى الإنابة والإخبات معا.
وأما ما أبداه القزويني فلا يعدو كونه تفريعا على أصلي المجاز وهما المجاز العقلي واللغوي، فالمجاز المفرد يكون، عقليا ويكون لغويا، فالمفرد في المجاز العقلي ما كان جاريا على الكلمة بالإضافة الى ما بعدها، وتكتشف بالإسناد، كقوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى﴾ (الضحى/1) ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ (الضحى/2) فكلمة " سجا " بالنسبة الى اللّيل مجاز عقلي مفرد، والليل لا يهدأ، وإنما ينسب الهدوء فيه الى غيره؛ ولما كان الليل زمانا لهذا الهدوء، عبر عنه ب- " سجا " وسجا بمعنى هدأ وسكن وما شابه ذلك.
والمفرد في المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدك إرادته. والمجاز المفرد على أقسام: لغوي، وشرعي، وعرفي، كالأسد في الرجل الشجاع مثالا للغوي لفظ " صلاة " إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء.
والعرفي نوعان: العرفي الخاص كلفظ " فعل " إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحديث. والعرفي العام كلفظ (دابة) إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان (7).
وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي بشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، أي: بشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور، لأمر واحد كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات/1).
فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له، صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الأتبعاع(8). وهذا جار في الجاز المرسل الذي هو جزء من المجاز اللغوي.
إذن ما ابداه القزويني في هذا التفريع يعود الى الأصل في المجازين المذكورين ليس غير. نعم هناك ادعاء مجاز جديد أرجأنا الحديث عنه الى هذا الموضع من البحث، لأن لها معه متابعة قد تطول، ولأن تشعباته وأنواعه كثيرة متشابكة، ولا بد لنا من الإشارة إليها جميعا لإثبات أنها ليست أنواعا جديدة على المجاز، ولا تخرج عن شقيه الأصليين العقلي واللغوي؛ هذا المجاز ذكره عز الدين بن عبد السلام (ت: 660 هـ) وسماه " مجاز اللزوم "(9)، ونحن نذكر أنواعه عنده وتعقب على كل نوع.
وقد أطنب في دكر أنواعه وتعدادها؛ وبعد مدارستها وجدناها من أجزاء المجازين العقلي واللغوي، واشتمل بعضها على جزء من الكناية، وهو يرفض أن تكون الكناية من المجاز(10). أما أنواع "مجاز اللزوم" فهي عنده(11).
1- التعبير بالإذن عن المشيئة، لأن الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الإذن واختياره، والملازمة الغالبة مصححة للمجاز، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران/145). أي بمشيئة الله، ويجوز في هذا أن يراد بالاذن أمر التكوين، والمعنى " وما كان لنفس أن تموت الا بقول الله موتي". هذا من المجاز العقلي، وعلاقته السببية كما هو واصح، أو أنه من المجاز المرسل باعتبار الإذن تعبيرا عن المشيئة وعلاقته السببية أيضا.
2 - التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل في مثل قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة/221). أي بتسهيله وتيسيره. وهذا من المجاز اللغوي المرسل، وعلاقته السببية، أي بسبب من مشيئة الله تعالى وتيسيره وتسهيله.
3 - تسمية ابن السبيل في قوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (النساء/36) لملازمته الطريق. وهذا من المجاز العقلي، ووجهه وعلاقته من باب تسمية الحال باسم المحل، وذلك لكونه موجود في السبيل.
4 - نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومهما عنه غالبا في مثل قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة/7). أي وفاء عهد أو تمام عهد، فنفى العهد لانتفاء ثمرته، وهو الوفاء والاتمام. وهذا التعليل وإن كان واردا، ولكن المراد قد يكون - والله العالم - من باب الكناية، أي أن المشركون غدرة، فعبّر بعدم الوفاء بالعهد كناية عن الغدر الذي اتصفوا له، والكناية ليست من المجاز حتى عند المصنف رحمه الله.
5 - التجوز بلفظ الريب عن الشك، لملازمة الشك القلق والاضطراب، فإن حقيقة الريب قلق النفس، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (يونس/37) أي لا شك في إنزاله أو في هدايته. وهذا - والله العالم - من باب الكناية، أي اطمئنوا للقرآن، ولا تقلقوا، ولا تضطربوا، فإن من شأن الريب القلق والاضطراب. والريب مصدر من رابني، بمعنى الشك، وهو أن نتوهم بالشيء أمرا مريبا فينكشف الأمر عما تتوهم، وبمعنى الريبة، وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها وعدم اطمئنانها، ومنه ما أورده الزمخشري عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " دع ما يريبك الى ما لا يريبك "، فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة؛ اي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن "(12).
6 - التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المني، وهو ملازم للجماع غالبا، ولكنه خص بالزنا إذ لا غرض فيه سوى صب المني، بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالاختان والأصهار، والأولاد والأحفاد، ومثاله في قوله تعالى: م﴿ُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء/24) أي: غير مزانين. وهذا أن كان الأمر كما ذكره، فهو تعبير بالكناية المهذبة فقد ذكر المسافحة وأراد لازمها.
7 - التعبير بالمحل عن الحال لما بينهما من الملازمة الغالبة كالتعبير: باليد عن القدرة والاستيلاء، والعين عن الإدراك، والصدر عن القلب وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الألسن، وبالالسن عن اللغات، وبالقرية عو قاطنيها، وبالساحة عن نازليها، وبالنادي والندي عن أقلهما. وقد ورد كل ذلك في القرآن الكريم. وهذا كله قسيم بين المجازين اللغوي والعقلي في القرآن الكريم، وهما جوهر المجاز القرآني. فالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء، وبالعين عن الإدراك، وبالصدر عن القلب، وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الالسن، وبالألسن عن اللغات، كله من المجاز اللغوي المرسل، باعتباره نقلا عن الأصل اللغوي بقرينة لإرادة المجاز، مع بقاء المعنى اللغوي على ماهيته، وإضافة المعنى الجديد إليه. والتعبير بالقرية عن قاطنيها، وتوابع ذلك، كله من المجاز العقلي، فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها، فيكون التقدير أهل القرية، وما استفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية، وإنما بقرينة معنوية حالية، حكم بها العقل في الإسناد.
8 - التعبير بالإرادة عن المقاربة، لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ (الكهف/77). وهذا من المجاز العقلي، فليس الجدار كائنا مريدا، ولا هو بقادر على هذا الفعل، وقد أدركنا بالضرورة العقلية، ومن سياق الإسناد الجملي، أن المجاز هو الذي أشاع روح الإرادة في الجدار، وكأنه يريد. قال أبو عبيدة: " وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذ كان في هذه الحال من ربّه فهو إرادته "(13).
9 - التجوز بترك الكلام عن الغضب، لأن الهجران وترك الكلام يلازمان الغضب غالبا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة/174). وهذا - والله العالم - تعبير بالكناية، ولا علاقة له بالمجاز، فعبّر بعدم الكلام عن الغضب والانتقام والمجازاة.
10 - التجوز بنفي النظر عن الإذلال والاحتقار، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (آل عمران/77). وهذا من الكناية أيضا للتعبير عن ازدرائهم، وعدم رضاه عنهم، وليس لله جارحة فينظر بها إليهم، فهو بصير بغير عين، وسميع بغير أذن وهو على العكس من قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ (القيامة/22) ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة/23) فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بنضرة النعيم، فنظروا الى رحمته ورأفته، وتطلعوا الى حسن ثوابه ومجازاته، وتوقعوا لطف عنايته ورعايته، فكان ذلك نظرا الى عظيم إحسانه، وكريم أنعامه، إذ ليس الله جسما، أو قالبا، أو مثالا، حتى ينظروا إليه، فعدم نظره تعالى الى الكافرين متقارب من نظر المؤمنين إليه من جهة الكناية الهادفة. وقد يكون ذلك مجازا مرسلا بإضافة عدم العناية والرعاية، وإرادة الإحتقار والإذلال، معنى جديدا الى عدم النظر، وهو عكسه في الآيتين التاليتين.
11- الحادي عشر: التجوز باليأس عن العلم، لأن اليأس من نقيض العلوم ملازم للعلم غير منفك عنه، كقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (الرعد/31). فإن كان هذا مجازا فهو مجاز مرسل إذ أضاف معنى ثانويا للفظ اللغوي، أو هو - والله العالم - من قبيل استعمال الأضداد باللغة، فيأتي التيئيس بمعنى العلم، وبمعنى عدم العلم وانقطاع الأمل، وعلى هذا فلا علاقة له بالمجاز.
12 - التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بإمرأته أنه يطؤها في ليلة عرسها، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (النساء/23) وهذا من باب التعبير بالكناية المهذبة، وليس من المجاز في شيء فاستعمل الدخول، وأراد لازمه وهو الوطء، تهذيبا للعبارة، وصونا للحرمات.
13 - وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه كقوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ (المدثر/9). وهذا من الجاز اللغوي / المرسل، وهو من باب إسناد الفاعلية، أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي، فقد أسند العسرة الى اليوم ووصفه بها، واليوم دال على زمن من الأزمان، ولا تستند اليه صفة الفاعلية إلا مجازا، وكأنه يريد فذلك يومئذ يوم ذو عسرة، تعبيرا عما يجري فيه من المكاره والشدائد، والله سبحانه هو العالم.
14 - وصف المكان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيها، كقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ (إبراهيم/35). وهذا هو المجاز العقلي فيما يظهر لي، فالأمن لا يلحق بالبلد وإنما بأهل البلد، وما قيل في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ (يوسف/82)، يقال هنا. بصفة من قامت به، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ (محمد/21)، والعزم صفة لذوي الأمر. ﴿وقوله تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة/16) وصف التجارة، وهو صفة للتاجر". وهذا من المجاز العقلي في الآيتين الكريمتين:
فالمراد من الآية الأولى - والله العالم - عزم ذوي الأمر على تنفيذ الأمر، فليس للأمر إرادة على العزم، وليس العزم مما يسند فعله الى الأمر، وفي الآية الثانية: الربح مجازي فيها، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في المتاجرة، والتجارة فيها مجازفة، فلا يراد بها المعاملات السوقية في شتى البضائع. وإنما المراد بالربم تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة المتوخاة في إنفاق الأعمار وعدم خسرانها، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة والمثابرة وصالح الأعمال، وهذا إنما يدرك بأحكام العقل من خلال إسناد الجملة، فهو هناكما في الآية الأولى: مجاز عقلي.
16 - الكنايات كقول طرفة: "ولست بحلال التلاع مخافة * ولكن متى يست--رفد القوم أرفد" وقد أقر أن هذا من الكناية وعقب عليه بقوله: "والظاهر أن الكناية ليست من المجاز، لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له، وأردت به الدلالة على غيره، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له "(14).
وبعد هذه الجولة مع توجيهات صاحب الإشارة الى الإيجاز " فمجاز اللزوم " لا لزوم له، لأنه - كما رايت - إما أن يكون خارجا من باب المجاز، وإما أن يكون تفريعا عن شقي المجاز، كما يبدو هذا من التعقيل على كل نوع من أنواعه. وهنالك أقسام أخرى تدور في هذا الفلك أعرضنا عن إيرادها، لأنها لا تعدو القسيمين المجازيين.
1المصدر نفسه: 74.
2ظ: القزويني، الإيضاح: 268. التلخيص: 293.
3ظ: القزويني، الإيضاح: 454، تحقيق: الخفاجي: 82.
4ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 383 وما بعدها.
5ظ: القزويني، الإيضاح: 395 تحقيق الخفاجي.
6ظ: القزويني، الإيضاح: 438 وما بعدها.
7عز الدين بن عبد السلام، الإشارة الى الإيجاز: 79.
8المصدر نفسه: 85.
9المصدر نفسه: 79 ـ 85.
10الزمخشري، الكشاف: 1/ 113.
11عز الدين بن عبد السلام، الإشارة الى الإيجاز: 85.
12ظ: فيما بعد الفصل الرابع والفصل الخامس.
13ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 194 ـ 198.
14ظ: القزويني، الإيضاح: 97 وما بعدها.