ثانيًا: مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام

يبدو أن الجاحظ (ت: 255 هـ) هو أول من استعمل المجاز للدلالة على جميع الصور البيانية تارة، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى، بل على معالم الصورة الفنية المستخلصة من اقتران الألفاظ بالمعاني، فهو كمعاصريه يعبر عن جمهرة الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه، يعبر عنها جميعا بالمجاز، ويتضح هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البلاغية التي يطلق عليها اسم المجاز، وقد انسحب هذا على المجاز القرآني لديه (1). ويعلل هذا التواضع عند الجاحظ ومعاصريه بأمرين:

الأول: إرجاع صنوف البيان العربي وتفريعاته الى الأصل، وهو عندهم: المجاز بمعناه الواسع.

الثاني: عدم وضوح استقلالية هذه المصطلحات بالمراد الدقيق منها في مفهومها ودلالتها كما هي الحال في جلائها بحدود معينة بعد عصر الجاحظ عند كل من ابن قتيبة (ت: 276 هـ) وعلي بن عبد العزيز المعروف بالقاضي الجرجاني (ت: 366 هـ) وعلي بن عيسى الرماني (ت: 386 هـ) وسليمان بن حمد الخطابي (ت: 388 هـ) وأبي هلال العسكري (ت: 395 هـ) مما قد يعتبر بدايات إصطلاحية في إطار ضيق، ولكنه قد يحدد بعض معالم الرؤية.

فالجاحظ حينما يتحدث عن المجاز القرآني فإنه ينظر له بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء/10). ويعد هذا من باب المجاز والتشبيه على شاكلة قوله تعالى: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة/43). وعنده أن هذا قد يقال لهم، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبدة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل، وتمام الآية ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء/10) مجاز آخر... فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز.(2)

والجاحظ هنا ينظر الى المجاز باعتباره في قبال الحقيقة، وهو قسيم لها، في تنظيره له، وتلك بداية لها قيمتها الفنية.

ويرى البعض أن إطلاق المجاز في معناه الدقيق إنما بدأ مع المعتزلة،وهم مجوزون له لوروده في القرآن، وقد أشار الى ذلك ابن تيمية، واعتبر المجاز دون مبرر أمرا حادثا، وفنا عارضا، لم يتكلم به الأوائل من الأئمة والصحابة والتابعين، فقال: "وتقسيم الألفاظ الدالة على معانيها الى حقيقة ومجاز، وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظا الحقيقة والمجاز في المدلول أو الدّلالة، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين، ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ، وبكل حال فهذا التقسيم إصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثالثة الأولى.. وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز، هو أبو عبيدة معمّر ابن المثنى في كتابه، ولكنه لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عني بمجاز الآية ما يعبر عن الآية... وإنما هذا إصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين(3).

ولا نريد أن نناقش إبن تيمية في نفيه لمصطلح المجاز في القرون الثلاثة الأولى، في حين استعمله بمعناه الاصطلاحي العام كل من الجاحظ (ت: 255 هـ) وابن قتيبة (ت: 276 هـ) وهما من أعلام القرن الثالث، لا نجادله يهذا لوضوح وروده، بقدر ما نؤيده في حدود أن المعتزلة كانوا مجدين في هذا المنحى، وإن كان الفضل الحقيقي في إرساء اسسه، واستكمال مناهجه يعود الى الشيخ عبد القاهر وهو ليس معتزليا.

وكان محمد بن يزيد المبرد (ت: 285 هـ) قد استعمل المجاز بالمؤدى نفسه الذي استعمله به أبو عبيدة من ذي قبل للدلالة على ما يعبر به عن تفسير لفظ الآية أو ألفاظها، ولا دلالة إصطلاحية عنده فيه(4).

على أن إبن جني (ت: 392 هـ) قد أشار الى حقيقة وقوع الكلام مجازا في عدة مواضع من " الخصائص " ونصّ عليه بل ذهب الى أولويته في الكلام، ووافق إبن قتيبة في موارد منه، وأخذ ذلك عنه، كما سنرى. يقول إبن جني في هذا السياق: " إعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة، وذلك عامة الأفعال، نحو: قام زيد، وقعد عمر، وانطلق بشر، وجاء الصيف، وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية. فقولك: قام زيد معناه: كان منه القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر، وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم انه لا يجتمع لأنسان واحد في وقت ولا في مئة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم، هذا محال عند كل ذي لبّ، فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز لا حقيقة، وإنما هو وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير(5).

وهذا التعليل من ابن جني قائم على أساس نظرة الموحدين وأهل العدل في مقولتهم " لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ". فالله سبحانه وتعالى موجد القوة في الإنسان على القيام، والإنسان يؤدي ذلك القيام، ولكن لا بحوله ولا قوته، فليس هو قائما في الحقيقة، بل الطاقة التي أوجدها الله تعالى عنده، هي وما خوله إياه كانا عاملين أساسين في القيام، فلا هو بمفرده قائم،ولا القيام بمنفي عنه، وإنما هو أمر بين أمرين، فكان القيام بالنسبة اليه مجازا.

ولا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا إشلرة إبن جني الى المجاز في عدة مواضع من الخصائص، لعل أهمها من يجعل فيه المجاز بعامة قسيما للحقيقة، متحدثا عنه وعن خصائصة بإطار بلاغي عام قد يريد به التشبيه والاستعارة والمجاز بوقت واحد، وذلك قوله: " إن الكلام لا يقع في الكلام ويعدل عن الحقيقة إليه إلا لمعان ثلاثة هي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة "(6).

ولا نريد ان ننقاقش إبن جني في هذا الاتساع وذلك التوكيد أو التشبيه كما فعل إبن الأثير (ت: 637 هـ) في متابعته هذه الوجوه، فذلك مما يخرج البحث عن دائرته الى قضايا هامشية لا ضرورة اليها، بل نقول أن المجاز في قيمته الفنية لا يختلف عن الحقيقة في قيمتها الفنية، فكلاهما يهدف الى الفائدة المتوخاة من الكلام. قال الحسن بن بشير الآمدي (ت: 370 هـ) " الكلام إنما هو مبني على الفائدة في حقيقته ومجازه"(7).

وكان علي بن عيسى الرماني (ت: 386 هـ) وهو ممن عاصر ابن جني، ينظر الى الاستعارة باعتبارها استعمالا مجازيا، وعدّها أحد أقسام البلاغة العشرة، واكتفى بذكرها عن ذكر المجاز(8)، مما يعني أنه يرى فيما هو قسيم للحقيقة مجازا وذلك صريح قوله: " وكل استعارة حسنة فهي توجب بيان ما لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى... ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الأستعارة على جهة البلاغة "(9).

ومن هذا يبدوا أن الرماني قد لحظ المجاز بإطاره البلاغي العام، فكل ما كان غير حقيقي سواء أكان إستعارة أم مجازا فهو استعمال مجازي، وينظر لهذا بعشرات الآيات القرآنية، ويعطي المعنى الحقيقي، والمجازي بهذا المنظور الذي أوضحناه، شأنه بهذا شأن من سبقه الى النظرة نفسها. ففي قوله تعالى ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (الأعراف/154).

قال الرماني " وحقيقته إنتفاء الغضب، والأستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة، فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره "(10).

وفي قوله تعالى (﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة/110) ينظر الرماني إلى المجاز في " ريبة " إلى أنه استعارة، مما يعني عدم وضوح التمييز بين المجاز والاستعارة عنده، وكلاهما مجاز بالمعنى العام عنده، إذ عبر الله عن البنيان بأنه ريبة، وإنما هو ذو ريبة كما يرى ذلك الرماني، وإذا صير هذا الاطلاق عليه فهو مجاز، والتعبير عنه بالاستعارة عند الرماني يعني أن النظرة للاستعارة والمجاز على حد سواء.

يقول الرماني في تعقيبه على الآية الكريمة " وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها، وحقيقيته إعتقادهم الذي عملوا عليه، والاستعارة أبلغ لما فيهامن البينان بما يحس ويتصور، وجعل البنيان ريبة وإنما هو ذو ريبة، كما تقول: هو خبث كله، وذلك أبلغ من أن يجعله ممتزجا، لأن قوة الذم للريبة، فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط "(11).

فالرماني الذي يعبر عن المجاز بالاستعارة، ويضع الاستعارة في التطبيق موضع البحث، إنما ينظر اليها باعتبارها عملا مجازيا يستدل به على وقوع المجاز في القرآن من وجه، وعلى دلائل الإعجاز القرآني من وجه آخر.

ويبدو ان نظرة البلاغيين في القرن الرابع من الهجرة كانت متحدة في هذا المقياس بأطاره العام، فهذا أبو هلال العسكري (ت: 395 هـ) قد أشار الى المجاز بمعناه الواسع ونظر له من القرآن الكريم في صنوف الاستعارات القرآنية، وقد أوضح رأيه في التنصيص على ذلك بقوله: " ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة، وهي أصل الدلالة علة المعنى في اللغة "(12).

ويهمنا من هذا القول أنه جعل المجاز قسيما للحقيقة، واعتبر الاستعارة كذلك لا فرق بينهما وبين المجاز، وكانت تطبيقاته في هذا المنهج إستعارات القرآن.

والحق أن أبا هلال كان ذا حدس إستعاري، وحس بياني، وذائقة بلاغية ناضجة فيما أورده من شواهد قرآنية في هذا المقام، ففي قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان/23). يقول أبو هلال: " حقيقته عمدنا، وقدمنا أبلغ، لأنه دلّ فيه على ماكان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائبا عنهم، ثم قدم فأطلع على غير ما ينبغي فجازاهم بحسبه، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير، لأن العمد الى إبطال الفاسد عدل، وأما قوله (هباءً منثورا) فحقيقته أبطلناه، حتى لم يحصل منه شيء، والاستعارة أبلغ، لأنه إخراج ما لا يرى الى ما يرى "(13).

وكان السيد الشريف الرضي (ت: 406 هـ) قد ألف كتابين في المجاز: لهما أهمية نقدية وبلاغية في البحث البياني في القرآن وعند العرب وهما: " تلخيص البيان في مجازات القرآن " و " والمجازات النبوية "، وكان إطلاق المجاز في هذين الأثرين يشمل الاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه، كما سيتضح فيما بعد، لكنه في عرضه الاصطلاحي أضيق دائرة من فضفاضية الاستعمال الجاحظي، وعموميته عند الرماني، واتساعه عند إبن جني والوقوف به عند الاستعارة فحسب عند أبي هلال.

وقد عبر إبن رشيق القيرواني (ت: 456 هـ) أن العرب كثيرا ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها(14). ونظرته في هذا نظرة من سبقه في المعنى العام.

إذن فمصطلح المجاز بمعناه الواسع عريق من ناحيتين: الأولى: استعمال النقاد والبلاغيين العرب له من قبل أن تتبلور دلالته الاصطلاحية الدقيقة. الثانية: وروده في المظان البيانية واللغوية والتفسيرية بمعنى يقابل الحقيقة، وإن اشتمل على جملة من أنواع البيان، أو قصدت به الاستعارة باعتبارها تقابل الحقيقة لأنها استعمال مجازي.

والذي نريد أن ننوه به أن هذا الأصل معرّف بالأصالة منذ عهد مبكر في خطوطه الأولى، وليس هو من ابتكار المعتزلة، بقدر ما لهم من فضل في المساهمة فيه شأنهم بذلك شأن البلاغيين فيما بعد عصر الرضي وعبد القاهر.


1ابن تيمية، كتاب الأيمان: 34.

2ظ: المبرد: المقتضب في أغلب استعمالاته لإطلاق المجاز.

3ابن جني، الخصائص: 2 / 448.

4المصدر نفسه: 2 / 442.

5الآمدي، الموازنة بين الطائيين: 179.

6ظ: الرماني، النكت في إجاز القرآن: 76.

7المصدر نفسه: 86.

8الرماني: النكت في إعجاز القرآن: 87.

9الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 91.

10العسكري، كتاب الصناعتين: 276.

11العسكري، كتاب الصناعتين: 277.

12ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر: 1 / 265.

13حققه في طبعة منقحة الدكتور السيد أحمد صقر وطبع عدة مرات: مطبعة الحلبي.

14ظ: بدوي طبانة، البيان العربي: 27 وانظر مصادره.