حاصل معنى الآيات

لا أُقسم بالشفق، وقد ذكرنا حديث "لا" و انّ معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم بالحمرة التي تظهر في الأفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من بياض والمعروف في الشفق في لسان الأدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء بالشفق غير انّه ربما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة الذي هو آية ضعف الشفق ونهايته.

وأقسم بالليل لما فيه من آثار و أسرار عظيمة، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة، قال سبحانه: (قُل ْأرَأيْتُمْ إنْ جعلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمدًا إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ إلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أفَلا تَسْمَعُون * قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرمدًا إلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إلهٌ غَيرُ اللّهِ يَأتِيكُمْ بِلَيلٍ تَسْكُنُون فيهِ أفَلا تبصِرُون)(1).

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات، فقال: (ومِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُم ُاللَّيلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)(2)ز، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه.

وأقسم بما وسق، أي بما جمع الليل، ولعلّه إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل، فيكون الليل سكنًا عامًا للكائنات الحيّة.

حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الأربع لما فيه من روعة وجمال، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر، مضافًا إلى نوره الهادئ الرقيق الذي يغطّي سطح الأرض.

وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير الطرق و الصحاري.

فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص، فانّ الشفق أوّل الليل يطلع بعده القمر في حالة البدر، فهذه الموضوعات الأربع أُمور كونية يقع كلّ بعد الآخر حاكية عن عظمة الخالق.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله سبحانه: (لَتَرْكَبُنَّ طَبقًا عَنْ طَبَق) وهي إشارة إلى المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية ثمّ الموت ثمّ الحياة البرزخية ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الأخروية ثمّ الحساب والجزاء.

وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة، أعني قوله سبحانه: (يا أيُّهَا الإنْسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)(3).

والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.

فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه، وكأنّ هذا الكدح باق إلى حصول الغاية، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء اللّه بالشهود.

وأمّا وجه الصلة وهو بيان انّ الأشواط التي يمرّ بها الإنسان أُمور مترتبة متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر.

توضيحه: انّ القرآن يحدّث عن أُمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلنًا عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ثمّ يخرج القمر بدرًا تامًا، فإذا كان المقسم به ذات أُمور متسلسلة يأتي كلّ بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الإنسان مثل المقسم به مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثمّ إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب.

وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم، حيث قال: (فَما لَهُمْ لا يُؤمِنُون) فانّ هذا النظام الرائع في الكون وحياة الإنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه لدليل واضح على أنّ عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر عارف بخصوصيات الكون.

يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد: إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم - نحن العلماء - بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فانّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته.

ذلك هو اللّه الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّذرة من ذرات هذا الوجود(4).


1 - القصص: 71 - 72

2 - القصص: 73

3 - الانشقاق: 6

4 - اللّه يتجلى في عصر العلم: 26